د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
شتان بين الرجلين، فواحد من أولي العزم من الرسل، والآخر من أكفر الخلق، وهو أشد فتنة في تاريخ الأرض، ومع ذلك جاء الاسم بينهما في السُّنَّة مشتركًا.
شتَّان بين الرجلين، فواحد من أولي العزم من الرسل، ومن المقربين والآخر من أكفر الخلق، أو هو أكفرهم، وهو أشدُّ فتنة في تاريخ الأرض، ومع ذلك جاء الاسم بينهما في السُّنَّة مشتركًا (المسيح بن مريم ورد في القرآن والسُّنَّة).
أصل التسمية والاشتقاق مختلف:
أولًا: المسيح ابن مريم:
أكثر من 50 قول!، قَالَ الْوَاحِدِيّ: ذَهَبَ أَبُو عُبَيْد وَاللَّيْثُ إِلَى أَنَّ أَصْلَهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ (مَشِيَّحْ) فَعَرَّبَتْهُ الْعَرَبُ، وَغَيَّرَتْ لَفْظَه، كَمَا قَالُوا: مُوسَى وَأَصْله (مُوشِيه) بِالْعِبْرَانِيَّةِ، فَلَمَّا عَرَّبُوهُ غَيَّرُوهُ، فَعَلَى هَذَا لَا اِشْتِقَاق لَهُ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أنَّهُ مُشْتَقّ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَحُكِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَمْسَحْ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا بَرِئَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَابْنُ الْأَعْرَابِيّ: الْمَسِيحُ: الصِّدِّيق.
وَقِيلَ: لِمَسْحِ زَكَرِيَّا إِيَّاهُ. وَقِيلَ: لِمَسْحِهِ الْأَرْض، أَيْ: قَطْعِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مُسِحَ بِالْبَرَكَةِ حِينَ وُلِدَ. وَقِيلَ: لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مَسَحَهُ، أَيْ: خَلَقَهُ خَلْقًا حَسَنًا، وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ. وَالله أَعْلَم.
ثانيًا: المسيح الدجال:
يقول ابن الأثير: "سمي الدجال مسيحًا، لأن عينه الواحدة ممسوحة، والمسيح: الذي أحد شقي وجهه ممسوح، لا عين له ولا حاجب، فهو فعيل بمعنى مفعول، بخلاف المسيح عيسى ابن مريم، فإنه فعيل بمعنى فاعل، سمي به، لأنه كان يمسح المريض فيبرأ بإذن الله.
والدجال: الكذاب، وسمي دجالًا - كما يقول ابن حجر- لأنه يغطي الحق بباطله، ويقال: دجل البعير بالقطران إذا غطاه، والإناء بالذهب إذا طلاه، وقال ابن دريد: سمي الدجال، لأنه يغطي الحق بالكذب، وقيل: لضربه نواحي الأرض، وقيل: بل قيل ذلك، لأنه يغطي الأرض.
والبعض يسمِّي المسيح الدجال بالمسيخ، وقد ورد بهذا اللفظ في عدة روايات صحيحة، ولكن الأشهر والأكثر المسيح، وقال بعض العلماء إن هذا تصحيف، وعمومًا فالأصوب أن نسميه المسيح، ونقيِّده بالدجال، فلا نطلق عليه المسيح بدون الدجال. ولا غرابة من تشابه الاسمين، بل هو مقصود.
تشابه الاسمين:
الاثنان ضدَّان: مسيح الهدى ومسيح الضلالة: في أحمد بسند حسن عن أبي هريرة: "وَأَمَّا مَسِيحُ الضَّلَالَةِ، فَإِنَّهُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ.."[1]، جاء الاسم متشابهًا لتشابه فتنة كلٍّ منهما، مع اختلافهما في القدر؛ فكلًّا منهما فُتِن الناس فيه كإله، والله يثبت قدرته على خلق المتضادات، كما خلق الليل والنهار، وأخرج الحي من الميت، والميت من الحي، والجنة والنار، ولننظر إلى هذه التشابهات:
1- فتنة الألوهية: ألَّه الناس عيسى بن مريم، ورفعوه فوق درجة العبودية: قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، وقال: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة: 116].
1- إحياء الموتى:
2- حتى عندما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم المسيحَ بنَ مريم في رؤيا يطوف بالكعبة رأى معه المسيح الدجال؛ ففي البخاري ومسلم قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: "أَرَانِي اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا تَرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ، رَجِلُ الشَّعْرِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ، وَهُوَ بَيْنَهُمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَرَأَيْتُ وَرَاءَهُ رَجُلًا جَعْدًا قَطَطًا، أَعْوَرَ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ بِابْنِ قَطَنٍ، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ"[2].
3- كلاهما أبيض بحمرة، ولكن واحد كأحسن ما يُرَى من الرجال، والآخر رجس على رجس.
4- كلاهما جعد الرأس، ولكن أحدهما (عيسى) جميل الجعودة يتكسَّر شعره على منكبيه، والآخر شديد الجعودة (قطط) كأن رأسه أغصان شجرة.
5- نقرأ على الدجال فواتح الكهف وفيها الإشارة إلى المسيح ابن مريم: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 4، 5].
6- والذي يقتل الدجال هو المسيح ابن مريم
هكذا جعل اللهُ قتلَ المسيح الدجال الذي ادَّعى الألوهية على يد المسيح ابن مريم البريء من ادِّعاء الألوهية، لتنتهي الفتنتان معًا في وقت واحد، وسبحان المحكم لكونه[3]!
[1] أحمد (7892)، قال شعيب الأرناءوط: حسن وهذا إسناد ضعيف، قال الألباني: أخرجه أحمد في المسند من طريقين من المسعودي به، قلت: ورجاله ثقات؛ غير أن المسعودي كان قد اختلط.
[2] مسلم: كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح بن مريم والمسيح الدجال (169).
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك